يوميات عالق بفرانكفورت 1
كان اليوم جميلا مع هبوب نسيم شتائي؛ وأشعة الشمس الدافئة زارت الغرفة كعادتها؛ وكنت أرى من النافذة الاخضرار وأشجار القصطل؛ والحديقة المزينة الفارغة من أطفالها؛ قليل من المارة يتداولون على أرصفة الشوارع؛ فلا اكتظاظ؛ ولا ازدحام؛ احترام المسافة بين البشر واجبة وقانون كما كانت تحترم المسافة بين الشاحنات والسيارات خوفا من الحوادث؛ وبين البشر خوفا من العدوى.
وبعد فطور الصباح كالعادة والاطمئنان على الأهل وسؤال الأصدقاء على أحوالي؛ حان وقت الخروج لشراء ما نحتاجه في يومنا فكانت البداية بالمحل الأول الذي يدخله عشرون شخصا فقط؛ والباقون ينتظرون خارجه؛ وإذا أردت اقتناء سلعك فانتظر إلى أن يشتري من سبقك إلى الرف ولا تقف بجانبه.
وأمام صندوق الدفع يقف الزبائن الواحد تلو الآخر والمسافة بينهما متر أو أكثر. رعب واحتياط.
وإذا رآك رجل أمن المحل غير محترم للمسافةجاءك باحترام وخاطبك بلطف ونبهك إلى المسافة. الكل في انضباط ونظام؛ لم نتعود عليه؛ بل لا تسمع صوتا ولا كلاما كما في السابق؛ الصمت يخيم على المحل ولا تسمع سوى القابضة تقول ”جوتن مورجن” (صباح الخير) ثم”تشوس” (إلى اللقاء).
ثم زرنا المحل الثاني Reve؛ يوجد منه في كل التراب الألماني؛ لنقتني ما نحتاج من أكل؛ بل الأسعار كما عهدناها قبل الأزمة؛ ولكن هناك سلع انخفضت أسعارها؛ ولا تدافع ولا ازدحام.
وما إن عدنا إلى البيت حتى زارنا صاحب الشقة الشاب سمير مع زوجته الألمانية؛ كانت قد زارت وهران تذكر منها سانتاكروز والمتحف وحديقة الحياوانات واندهشت من السبع الذي لم يقو على الوقوف.
ونتمنى أن تزور المدينة ثانية وكانت دعوتنا لها صادقة؛ لعلها تجد السبع قد استرجع قوته.
وأفادتنا بأن ميركل في الحجر الصحي ولكن أمور البلاد تسير كالعادة وهي تطمئن على قضايا البلد.
وجاء زوجها الجزائري الحراق؛ غامر في مجيئه مع بعض الجزائريين على متن قورب الموت؛ فوصل إلى إسبانيا سالما. ولم يصدق أنه وصل. اختار فرنسا أولا ولكن لم ينزل رجله حتى غير الاتجاه نحو ألمانيا؛ وكانت مغامرة عجيبة؛ كان العذاب والمعاناة من غموض المستقبل وبرد وجوع وآلام إيجاد مأوى لقضاء الليل أو وقت الراحة وأية راحة! ولكن بالإصرار صنع مستقبله.
لقد ظلمه الفلاحون وهو يشتغل عندهم في جني البطاطيس والطماطم بل سرقوا حقه ولم يدفعوا له عرق جبينه؛ وباع السندوتشات في الأسواق لأن الفقر كان يقهر أفراد عائلته؛ لذلك كان قرار الهجرة ولو مات في البحر. ترك الأم تبكي على الرغم من أنها حاولت أن تمنعه؛ وكانت الانطلاقة من مرسى بجنب التنس. وصل وهو تائه إلى ألمانيا ووجد شغلا وكان يبيت في مرآب؛ رأته ألمانية كانت تأتي لقضاء أمورها في مكان عمله؛ فتعارفا وتزوجا.
ونجح بعد ذلك ولكن الغربة كما يقول مثل الوردة بدون رائحة؛ ونحن خرجنا مجبرين لا مخيرين؛ كما أننا في فرانكفورت مجبرون لا مخيرون ولكن شتان بيننا وبينه. إن مكوثنا مهما كان فيه من ألم لا يساوي جناح بعوضة من ألم هذا الحراق اللطيف في الزورق والغريب عن وطنه الذي يحمل شهادة علمية جامعية يفتخر بها.
ومن حكمه “لا تعرف من يقدم لك الخير في هذه الحياة”؛ وهي الحقيقة التي نعيشها مع أبناء جاليتنا ومع هذا المغامر الشجاع.
وكذلك “الغربة كاين ألي عطاتو وكاين ألي طواتو”.
وها نحن وجدناه في الشدة ولم نعرفه فتحققت حكمته؛ أعطانا شقته؛ كما وقف إلى جانبنا جزائريون آخرون ليس المقام لذكر أسمائهم. ولذلك نقول في حياتنا “نتركك في رعاية الله”. إننا في رعاية الله.
وما أن عزمنا أن نخرج مرة أخرى حتى رنُ جرس الشقة؛ دخل سعيد بحقيبة فيها من الأغراض ما لذ وطاب؛ فواكه ومياه وجبن…. قال كلفني أحد الجزائريين لأوصل هذه الأغراض. فبقينا مبهوتين أمام مواقف الرجال؛ وليس لديك سوى أن تدعو لأفراد الجاليةالجزائرية أجمعين بألمانيا بالخير والتعاون؛ ثم خرجنا معه نحو مدينة صغيرة إسمها hucs فتجولنا وعدنا فرحين؛ ولم يطلب منا سوى الدعاء بالخير له وللعائلة وأفراد الجالية. فأنعم الله عليهم بالبركات والأرزاق من حيث لا يحتسبون؛ وسدد خطاهم؛ ونتمنى أن نفكر مليا لنستفيد من هذه الطاقات الشابة؛ ليقدموا ما هو أكبر ويساعدوهم في ربطهم وأبنائهم بوطنهم خاصة أن الآباء جاؤوا مضطرين لا مخيرين.
حفظنا الله جميعا ورعانا وخاصة الشباب الجزائري المتواجد في ألمانيا ووفقهم لما فيه الخير لهم ولعائلاتهم ووطنهم.
أ. د. أحمد عزوز